مكتب "نور عبد الحميد للتحريات الخاصة" مكنش زي مكاتب المحققين اللي في الأفلام القديمة. لا دخان ولا غموض، مجرد مكتب عملي ونضيف في جاردن سيتي. نور كانت بتقرا بتركيز على اللاب توب، بينما حموكشة، مساعدها أبو شعر كنيش، كان بيتاوب وبيقلب في مجلة فنية بملل.
"زهقت يا أستاذة نور؟" حموكشة رمى المجلة. "مفيش أي جريمة قتل النهاردة؟ أي عصابة نخطف منها رهينة؟ حتى أي قضية فيها أكل حلو؟ آخر شغلانة كانت بتاعة البغبغان المسروق اللي بيتكلم فرنساوي... حاجة فافي أوي!"
نور ابتسمت ابتسامة خفيفة. "الصبر يا حموكشة، الصبر حلو. مش كل الشغل ضرب نار، أهو بنساعد الناس وخلاص."
"يا رب تيجي قضية قتل ومعاها عزومة كباب!" حموكشة كان لسه هيحلم بالأكل لما جرس الباب رن.
الاتنين بصوا لبعض. نور قالت: "شوف مين يا حموكشة، لو شكله مريب اعمله فيها عبيط وقول ميعادنا خلص."
تيمور، القط الشيرازي الأبيض الضخم اللي كان نايم في سلة قش، رفع راسه وبص ناحية الباب بأذن واحدة واقفة، كأنه بيحاول يسمع مين اللي بره.حموكشة راح يفتح ورجع وهو بيبرطم: "يا نهار ألوان! يا نهار مانجة! يا أستاذة! دي... دي هيفاء وهبي بشحمها ولحمها وجليترها!"
نور بصت له بحدة: "جليتر إيه بس! دخلها يا حموكشة وبطل هبل."
دخلت هيفاء وهبي المكتب. كانت زي ما بتظهر على الشاشة وأجمل كمان. لابسة فستان شيك ألوانه هادية، ونضارة شمس سودا كبيرة مدارية نص وشها، وشنطة ماركة عالمية. ريحة برفانها الغالي ملأت المكان. رغم كل الأبهة دي، كان فيه لمحة توتر خفيفة في حركة إيديها وهي بتقلع النضارة وبتبص لنور بعيون واسعة فيها ذكاء وحذر.
"أستاذة نور عبد الحميد؟" صوتها كان ناعم ومخملي.
"أيوة أنا. أهلاً بحضرتك يا مدام هيفاء، اتفضلي." نور شاورت على الكنبة الجلد. "تشربي حاجة؟"
"لأ ميرسي، متشكره أوي." هيفاء قعدت وحطت الشنطة جنبها، وحموكشة قعد على طرف الكرسي بتاعه وهو متنح ومش مصدق نفسه.
"خير يا مدام هيفاء؟ إزاي أقدر أخدمك؟" نور سألت بهدوء وهي بتقعد على الكرسي بتاعها قصادها.
هيفاء وهبي خدت نفس عميق، كأنها بتستجمع شجاعتها. "أستاذة نور، أنا عارفة إن حضرتك شغلك كله في الكتمان والسرية، وسمعتك سابقاكي في إنك بتعرفي تحلي أصعب المواقف بهدوء وذكاء... عشان كده أنا جيتلك النهاردة."
"أنا تحت أمرك."
"الموضوع... شخصي شوية. و... حساس." هيفاء بصت بسرعة ناحية حموكشة اللي كان مركز معاهم بكل حواسه. (حموكشة بيفكر: تفتكر لو طلبت صورة هتقبل؟ ولا هتطلب فلوس؟ هي الناس المشهورة دي بتدي بقشيش عالي؟)
نور فهمت. "حموكشة، حبيبي، ممكن تعمل لنا اتنين قهوة سادة من اللي قلبك يحبهم؟ ويا ريت تتأكد إن مفيش نملة معدية جنب الباب."
حموكشة خرج وهو بيبرطم: "قهوة سادة! هو الوش ده وش قهوة سادة؟ ماشي... بس لو القط ده شرب منها ماليش دعوة!"
أول ما الباب اتقفل، هيفاء قربت شوية بصوت أوطى: "أستاذة نور، أنا عايزة أطلق."
"من فخري باشا الألفي؟" نور قالتها بهدوء كأنها معلومة عادية، وده فاجئ هيفاء شوية.
"آه... إنتي عارفة إني متجوزاه؟"
"الأخبار الفنية يا مدام هيفاء، وكمان طبيعة شغلي بتحتم إني أكون متابعة. بس الغريب إنك تيجي لمكتب تحريات عشان موضوع زي ده؟ المفروض محامي هو اللي يتولى الأمور دي."
هيفاء هزت راسها بسرعة. "المحاميين مش نافعين مع فخري. فخري باشا الألفي مش أي حد يا أستاذة نور. ده صخرة. عنيد، وقاسي، ومتحكم... ومبيسمعش لحد. المحاميين بيخافوا منه أو بيزهقوا من مماطلته. أنا بقالي شهور بحاول ومفيش فايدة."
"وايه سبب رغبتك الملحة في الطلاق دلوقتي بالذات؟"
هيفاء اترددت لحظة، بعدين بصت في عينين نور مباشرة. "عشان أنا... أنا هتجوز تاني. هتجوز طارق بيه المصري."
نور هزت راسها ببطء. طارق المصري، رجل أعمال شاب وله وزنه، وصاحب مجموعة شركات كبيرة. ده يفسر الإصرار. "وفخري باشا رافض عشان كده؟"
"رافض وخلاص! رافض لمجرد الرفض! بيتلذذ وهو شايفني متعلقة كده. أنا مش طالبة منه فلوس ولا أي حقوق زيادة، أنا بس عايزة حريتي. عايزة أبدأ حياتي من جديد." صوتها بدأ يعلى شوية وفيه نبرة يأس. "أنا سمعت إنك ليكي طريقة خاصة في التعامل مع الشخصيات الصعبة، وإنك ممكن تقنعيه بحاجة محدش تاني قدر يقنعه بيها. يمكن... يمكن لما ست تتكلم معاه بهدوء ومنطق، غير المحاميين بتوعي، يمكن يسمع."
نور فضلت ساكتة لحظات، بتقيم الموقف. القصة منطقية، لكن فيه حاجة غايبة. ليه فخري باشا يرفض لمجرد العند؟ وليه هيفاء تيجي لواحدة زي نور بدل ما تستخدم نفوذها هي أو نفوذ طارق المصري؟
"وليه متأكدة إنه هيرفض يقابلني أصلاً؟" نور سألت.
"أنا هقوله إنك جاية بخصوص موضوع مهم واستثمار جديد أو حاجة زي كده، هو بيحترم الناس الناجحة والمستقلة زيك. المهم بس توصليله وتقعدي معاه. الباقي بقى عليكي وعلى شطارتك."
نور بصت في وش هيفاء وهبي الجميل اللي كان بيعكس خليط من الأمل والقلق. حست بتعاطف معاها، لكن في نفس الوقت، جرس إنذار صغير كان بيرن في خلفية عقلها. الموضوع أبسط من اللازم، أو أعقد من اللازم.
تيمور، اللي كان رجع نام، فتح عين واحدة تاني وبص لهيفاء بنظرة شك واضحة قبل ما يقفلها تاني بكسل."تمام يا مدام هيفاء." نور قالت أخيراً. "أنا موافقة إني أحاول. هكلم فخري باشا وأحدد معاه ميعاد. بس مقدرش أوعدك بحاجة. زي ما قلتي، هو شخصية صعبة."
ملامح هيفاء نورت بامتنان واضح. "ميرسي أوي أوي يا أستاذة نور! أنا مش عارفة أقولك إيه. أرجوكي، الموضوع ده مسألة حياة أو موت بالنسبالي."
جملة "حياة أو موت" دي رنت في ودان نور بشكل غريب. بعد ما هيفاء مشيت، رجع حموكشة بالقهوة. "ها؟ مشيت؟ هتدفع كام الأستاذة؟ ولا هي افتكرت إنها جاية تصور كليب هنا؟"
نور خدت كوباية القهوة وشربت منها بق. بصت من الشباك على الشارع، ولسه صورة هيفاء وهبي القلقة في دماغها.
"طلبت مني أتدخل عشان جوزها، فخري باشا، يوافق يطلقها."
حموكشة شرق بالقهوة. "فخري باشا أبو قلب جليد ده؟! يا معلمة أنتي عايزة تنتحري؟ ده بيقولوا بيجمّد اللي يبصله بعنيه!"
"وافقت أحاول." نور بصت لحموكشة. "بس قلبي مش مطمن يا حموكشة. الموضوع ده وراه قصة أكبر بكتير."
(حموكشة بيبص للقط تيمور بشك: أنت السبب يا وش الفقر، أنت اللي بتجيب لنا المصايب بنظراتك دي!)تاني يوم الضهر، راحت نور فيلا فخري باشا الألفي في الزمالك. فيلا كأنها طالعة من فيلم تاريخي، فخامة وهدوء يخضوا. بعد ما عدت من البواب الحديدي الضخم والخادم الصامت، لقت نفسها في مكتبة مبهرة، كتب بالآلاف وريحة سيجار كوبي غالي.
فخري باشا دخل بهدوء، طويل، رياضي رغم سنه، وبدلة رمادي متفصلة. عينيه الزرقا باردة زي التلج، فيها نظرة تخترق الواحد. نور كانت متفقة مع هيفاء تقول إنها جاية تعرض استثمار، لكن الباشا فاجئها:
"أستاذة نور، مبحبش اللف والدوران. عارف إنك محققة خاصة، وعارف بالظبط إنتي جاية ليه. بخصوص هيفاء، مش كده؟ هي قالت لي إنها هتبعتلك. افتكرتها بتهزر بصراحة، أو بتحاول تعمل أي حركة جديدة عشان تضغط عليّا. هيفاء درامية زيادة عن اللزوم."
نور حافظت على هدوئها قدر الإمكان: "بالظبط يا باشا. بخصوص رغبتها في الطلاق وحضرتك..."
"معند؟" الباشا ضحك ضحكة باردة مفهاش أي فرحة. "هيفاء بتحب تلعب دور الضحية. الحقيقة يا أستاذة نور، أنا موافق على الطلاق. وبلغتها بكده بنفسي."
نور حست إنها سمعت غلط. "بلغتها؟ إمتى؟ ده عكس كلامها تماماً!"
"بعت لها رسالة مخصوص مع السواق بتاعي امبارح بالليل بعد ما مشيت من عندك. قلت لها إني موافق على كل طلباتها بخصوص الطلاق، وإن المحامين يتواصلوا عشان يخلصوا الإجراءات."
الصدمة كانت واضحة على وش نور. هيفاء وهبي كانت عندها امبارح بتقول إنها يائسة وإن الباشا صخرة مبيلينش، وهو هنا بيقول إنه وافق وبلغها! ليه هيفاء تكدب عليها أو تبالغ في الموقف بالشكل ده؟ وليه تدفع لها أتعاب عشان مهمة خلصت أصلاً قبل ما تبدأ؟
"أنا... أنا متفاجئة بصراحة يا باشا." نور قالت وهي بتحاول تستوعب. "مدام هيفاء مقالتليش أي حاجة عن ده امبارح."
فخري باشا هز كتفه بلا مبالاة وهو بيولع سيجار جديد. "زي ما قلت لك، بتحب الدراما. يمكن كانت عايزة تتأكد إني بتكلم جد، أو يمكن لسه مقتنعتش. المهم، الموضوع منتهي بالنسبالي. تقدري تبلغيها بكده لو هي لسه عاملة نفسها مش عارفة." قام وقف، كإشارة إن المقابلة خلصت. "أتمنى مكنش ضيعت وقتك على الفاضي يا أستاذة."
نور قامت وقفت هي كمان، عقلها بيدور زي المروحة وبيحاول يركب الصورة المقلوبة دي. "لا أبداً يا باشا، أنا متشكرة لوقت حضرتك."
وصلها الباشا لحد باب المكتبة بنفس البرود الرسمي. "مع السلامة يا أستاذة."
نور خرجت من الفيلا وهي تايهة ومش فاهمة أي حاجة في أي حاجة. الجو الهادي والفخم بتاع المكان كان بيخنقها دلوقتي. ليه هيفاء وهبي عملت كل ده؟ إيه الهدف من إنها تجيب نور هنا عشان تسمع كلام عكس اللي قالته تماماً؟ هل هي بتخطط لحاجة؟ ولا فخري باشا هو اللي بيلعب لعبة ما؟ اللعبة دي شكلها خطر.
ركبت عربيتها وهي لسه بتفكر ومش مركزة. طلعت تليفونها عشان تكلم حموكشة، اللي كان مستنيها في كافيه قريب عامل نفسه بيذاكر عشان ميثرش الشكوك (مع إنه مبيعرفش يفرق بين الألف وكوز الدرة). قبل ما تطلب الرقم، تليفونها رن. كان رقم حموكشة.
"ألو يا حموكشة، أنا خلاص خلصت و..."
"أستاذة نوووور! إلحقي!" صوت حموكشة كان عالي ومخطوف الأنفاس وفيه فزع حقيقي. "الشاي بالنعناع هنا تحفة! قصدي... لأ مش قصدي! قصدي بيقولوا... بيقولوا فخري باشا الألفي... اتقتل!"
نور حست إن الدنيا بتلف بيها. إزاي؟ هي لسه سايباه من دقايق! بصت بسرعة على فيلا الباشا في مراية العربية، وحست بقبضة باردة بتعصر قلبها.
"إنتي فين يا أستاذة؟" حموكشة سأل بصوت مخنوق. "قربتي؟ أجيب لك شاي معايا؟ أنا طلبت لنفسي واحد تاني أهو..."
"أنا... أنا لسه قريبة من الفيلا يا حموكشة! لسه خارجة من عنده!"
الصمت ساد لثواني على الخط، قبل ما حموكشة يقول بصوت واطي ومرعوب: "يا دي المصيبة السودا! هي هيفاء وهبي دي وش فقر ولا إيه؟!"
نور ملحقتش تفكر. دست بنزين ورجعت بالعربية في نفس الشارع اللي جت منه، قلبها بيدق في ودانها زي الطبل. فخري باشا اتقتل؟ ازاي وهي لسه سايباه من دقايق بيتكلم وبيتنفس وبيشرب سيجاره بمنتهى البرود؟ مستحيل!
لما وصلت عند بوابة الفيلا تاني، لقت الوضع مختلف تماماً. مكانش فيه هدوء ولا فخامة، كان فيه عربيتين شرطة واقفين، والبوابة الحديد الكبيرة مفتوحة على آخرها، وكام عسكري واقفين بيمنعوا أي حد يقرب. فيه كام صحفي بكاميرات بدأوا يتلموا على بعد، ريحة الفضيحة والإثارة ملت الجو.
نور وقفت العربية بعيد شوية ونزلت جري. حاولت تقرب من البوابة، بس عسكري وقّفها.
"ممنوع يا أستاذة، منطقة جريمة."
"أنا... أنا لازم أدخل. أنا كنت هنا من شوية بقابل الباشا بخصوص شغل." نور حاولت تحافظ على هدوئها، وطلعت الكارت بتاعها. "أنا نور عبد الحميد، محققة خاصة."
العسكري بص للكارت ورجع بص لوشها، متردد. في اللحظة دي، خرج من جوه الفيلا راجل طويل عريض لابس بدلة مقلمة، ملامحه حادة وباين عليه الجدية والصرامة. نور عرفته علطول: المقدم سامح رضوان، من مباحث القاهرة. قابلته قبل كده في قضية تانية وكان بينهم شد وجذب خفيف.
المقدم سامح لمحها، وعقد حواجبه باستغراب ممزوج بشك. "أستاذة نور؟ إنتي بتعملي إيه هنا تاني؟"
"سيادة المقدم، أنا كنت لسه خارجة من هنا. كان عندي ميعاد مع فخري باشا."
"ميعاد؟ بخصوص إيه؟" نظرته بقت أكتر حدة.
"شغل، استشارة بخصوص..." نور وقفت، مفيش داعي للكذب دلوقتي. "بصراحة يا سيادة المقدم، الموضوع كان بخصوص مدام هيفاء وهبي."
المقدم سامح رفع حواجبه. "هيفاء وهبي؟ ودلوقتي جوزها اتقتل. يا لها من صدفة عنب!" السخرية كانت واضحة في صوته. "اتفضلي معايا."
دخلت نور ورا المقدم سامح جوه الفيلا. الفوضى كانت واضحة جوه أكتر. ظباط وعساكر وخبراء أدلة جنائية بيتحركوا بسرعة وحذر. البهو الفخم كان مليان ناس لابسة أبيض وبيصوروا وبيرفعوا بصمات. ريحة المطهرات بدأت تختلط بريحة الكتب القديمة ودخان السيجار اللي كان لسه مالي المكان من شوية.
"الجريمة حصلت فين؟" نور سألت بهدوء وهي بتحاول تتجاهل نظرات الشك من المقدم سامح.
"في المكتبة. نفس المكان اللي قابلتيه فيه غالباً."
وصلوا عند باب المكتبة. كان واقف عليه عسكري، والمقدم سامح شاورله يعديهم. المنظر جوه كان صاعق. فخري باشا كان مرمي على الأرض جنب مكتبه الضخم، في نفس المكان اللي نور شافته قاعد فيه من أقل من ساعة. بدلته الرمادي الأنيقة كان فيها بقعة دم كبيرة وغامقة ناحية الصدر. عينيه الزرقا كانت مفتوحة وباصة للسقف بنظرة فاضية، وكأن آخر حاجة شافها كانت مفاجأة تامة.
نور خدت نفس بصعوبة وأشاحت بوشها للحظة. المنظر كان بشع، خصوصاً لشخص كانت بتتكلم معاه من دقايق.
"مين لقاه؟"
"الخادم بتاعه، اسمه بسيوني. كان جايب له قهوة أو حاجة، لقاه كده. هو اللي بلغ." المقدم سامح شاور على راجل عجوز شوية لابس بدلة الخدم البيضا واقف في ركن بعيد من البهو، وشه أصفر وباين عليه الرعب، وجمبه ظابط بيسأله أسئلة. "والسكرتيرة بتاعته عفاف كمان كانت موجودة في الفيلا، بس في مكتبها في الدور التاني."
"الجريمة حصلت بإيه؟ طعنة؟" نور لاحظت عدم وجود سلاح جريمة واضح.
"بالظبط. طعنة واحدة نافذة في القلب. شغل محترفين، أو حد كان متعصب أوي. لسه خبراء الأدلة بيشوفوا لو فيه أي آثار للسلاح أو بصمات." المقدم سامح بص لنور تاني. "والشهود الاتنين، بسيوني الخادم ومدام عفاف السكرتيرة، أكدوا نفس المعلومة: شافوا مدام هيفاء وهبي خارجة من عند الباشا من حوالي ساعة إلا ربع، قبل ما الخادم يكتشف الجريمة بعشر دقايق."
نور قلبها دق بسرعة. "شافوها هي؟ متأكدين؟"
"بيقولوا هي بشحمها ولحمها. لابسة نفس الفستان الأسود اللي كانت لابساه امبارح في العرض الخاص بتاع فيلمها الجديد. بسيوني شافها وهي ماشية في الممر اللي بره، وعفاف شافتها من شباك مكتبها وهي بتخرج من بوابة الفيلا."
"هيفاء وهبي..." نور كررت الاسم وهي بتفكر. لو الكلام ده صح، يبقى هيفاء هي القاتلة. الدافع موجود (الطلاق ورغبتها في الجواز)، والتوقيت كمان مظبوط. بس إزاي؟ هي مشيت من هنا وهي مصدومة من موافقته على الطلاق، مش وهي منتصرة أو قاتلة!
"سيادة المقدم، فيه حاجة مش منطقية. أنا لما كنت هنا، الباشا بنفسه قالي إنه وافق على الطلاق وبلغها بكده امبارح بالليل."
المقدم سامح هز راسه بسخرية. "والله؟ وهو ده ميخليهاش تقتله أكتر؟ يمكن رفض في آخر لحظة؟ يمكن اتخانقوا؟ يمكن كانت طمعانة في أكتر من مجرد الطلاق؟ الأسباب كتير يا أستاذة نور. حالياً، هيفاء وهبي هي المشتبه به الرئيسي." بص في ساعته. "وأنا بعت قوة حالا تجيبها من بيتها عشان نستجوبها."
نور كانت لسه بتحاول تستوعب التناقضات دي كلها لما تليفونها رن تاني. كان حموكشة.
"أيوه يا حموكشة، فيه جديد؟"
"جديد ونص يا أستاذة!" صوت حموكشة كان فيه مزيج من الإثارة وعدم التصديق. "أنا قلبت في النت عشان أشوف آخر أخبار هيفاء دي... مش هتصدقي! من ساعة ونص بالظبط، يعني في نفس الوقت اللي المفروض شافوها فيه بتخرج من فيلا الباشا هنا..."
"أيوه؟ مالها؟"
"كانت بتحضر حفلة عشا كبيرة في أوتيل سميراميس! عشا عاملاه جمعية رجال الأعمال، وفي صور ليها وهي قاعدة على الترابيزة وسط أكتر من عشر شخصيات مهمة ومعروفة! الخبر والصور لسه نازلين حالا!"
نور حست إن دماغها وقفت. إزاي؟! إزاي تكون هيفاء وهبي في فيلا فخري باشا بتقتله (حسب الشهود)، وفي نفس الوقت قاعدة في حفلة عشا رسمية في سميراميس ومتصورة مع 12 شاهد؟!
قفلت الخط وهي باصة للمقدم سامح اللي كان متابع تعبيرات وشها المتغيرة بفضول.
"خير يا أستاذة؟ فيه معلومات جديدة عن نجمة الإغراء؟"
نور بصت له بثبات وقالت جملة واحدة قلبت كل حاجة:
"سيادة المقدم... هيفاء وهبي عندها حجة غياب من حديد."
المقدم سامح بصلها للحظة، ملامحه الجامدة متحركتش، كأنه مش مصدق اللي سمعه. "حجة غياب؟ بتقولي إيه يا أستاذة؟ أنا عندي شاهدين شافوها خارجة من هنا بعنيهم!"
"وأنا بقول لحضرتك إنها في نفس الوقت ده بالظبط، كانت في مكان تاني خالص، ومعاها شهود أكتر وأهم." نور فتحت موبايلها بسرعة وورت له الخبر والصور اللي حموكشة بعتها. "حفلة عشا في سميراميس. شوف الصور بنفسك، قاعدة وسط السفير الفلاني ورئيس البنك العلاني ورجال أعمال ومراتاتهم... الصور دي لسه نازلة من دقايق."
المقدم سامح خد الموبايل من إيدها وبص للصور بتركيز، عينيه بتضيق وهو بيقلب بينهم. سكوت طويل ساد المكان، قبل ما يرجع لها الموبايل وملامحه بتعكس حيرة حقيقية لأول مرة. "الكلام ده... لو صحيح... يبقى إحنا قدام لغز كبير أوي."
(لو حموكشة كان موجود، كان هيقول: لغز إيه بس يا باشا، دي أكيد شبحها! أو يمكن ليها أخت توأم شريرة زي الأفلام الهندي؟!)"صحيح ونص يا سيادة المقدم. وعشان نتأكد..."
قاطعها سامح: "هنتأكد حالاً." التفت لأقرب ظابط جنبه. "يا حضرت الظابط، اتصل بالمسؤولين في أوتيل سميراميس فوراً، واسأل عن حفلة عشا جمعية رجال الأعمال اللي كانت شغالة من ساعة ونص لساعتين كده. عايزين قايمة بأسماء الحضور وتأكيد وجود الفنانة هيفاء وهبي بينهم." بعدين بص لنور تاني. "وإنتي، تعالي معايا. هنروح نسأل كام واحد من اللي كانوا هناك دول بنفسنا."
مشيوا الاتنين بسرعة وخرجوا من الفيلا وسط نظرات الفضول من الصحفيين والشرطة. ركبوا عربية المقدم سامح اللي سواقها انطلق بيهم ناحية وسط البلد.
الطريق لسميراميس مكانش طويل، بس كان كافي إن عقل نور يشتغل بأقصى سرعة. لو هيفاء وهبي عندها حجة غياب قوية ومثبتة، يبقى مين الست اللي شافوها الخدم والسكرتيرة خارجة من فيلا فخري باشا؟ هل الشهود غلطوا؟ صعب، الاتنين أكدوا إنهم شافوها بوضوح. هل ممكن تكون... حد شبهها؟
"سيادة المقدم،" نور قالت وهي بتبص لسامح اللي كان سرحان وبيبص من الشباك. "لو افترضنا إن حجة غياب مدام هيفاء سليمة مية في المية... ده مش معناه إن الشهود بتوعك كدابين. ده معناه إنهم شافوا حد تاني غيرها."
سامح بصلها. "حد تاني؟ قصدك إيه؟"
"حد شبهها بالظبط. حد يقدر يقلد شكلها وطريقتها لدرجة إن ناس يعرفوها ممكن يتخدعوا فيها."
"وده مين ده بقى؟ أختها التوأم اللي معرفهاش؟" سامح قال بسخرية.
"لأ. بس فيه واحدة بتقدر تعمل كده." نور قالت بهدوء. "لولا صبري."
اسم "لولا صبري" خلى المقدم سامح يسكت للحظة، كأنه بيفتكر. "لولا صبري؟ المونولوجيست؟ اللي بتقلد الفنانين؟"
"بالظبط. ومعروف عنها إنها بتقلد هيفاء وهبي ببراعة. لدرجة إن فيه ناس بيقولوا صعب تفرق بينهم لو لابسين زي بعض ومتكلموش."
سامح قعد يفكر بصوت عالي. "يعني إنتي بتقولي إن ممكن حد – هيفاء وهبي نفسها مثلاً أو حد تاني – يكون استأجر لولا صبري دي عشان تروح تقابل الباشا بدالها أو عشان..." سكت فجأة وعينيه وسعت. "... أو عشان تبقى هي كبش الفدا في جريمة قتل؟"
نور هزت راسها. "ده احتمال وارد جدًا. لو لولا هي اللي دخلت وخرجت، ده يفسر حجة غياب هيفاء. بس السؤال: مين اللي استأجرها؟ وليه؟ وهل هي اللي قتلت فعلاً؟ ولا دخلت لقته مقتول؟ ولا اتقتل بعدها؟"
في المكتب، تيمور كان بيلعب بكرة صوف وقعت منه تحت صورة للولا صبري، كأنه بيشاور عليها.الأفكار كانت بتتسابق في دماغهم لما وصلوا الأوتيل. مدير الأمن في الأوتيل أكدلهم صحة الخبر وقدم لهم قايمة بأسماء بعض الحضور المهمين اللي لسه ممكن يكونوا موجودين أو ساكنين في الأوتيل.
قابلوا رجل أعمال معروف كان قاعد على نفس ترابيزة هيفاء وهبي. الراجل أكد بكل ثقة: "هيفاء هانم؟ طبعاً كانت موجودة. قعدت جنبي تقريباً طول العشا، من أوله لآخره. ست لطيفة ودمها خفيف، كنا بنتكلم في الفن والبيزنس. استحالة تكون خرجت ورجعت من غير ما ناخد بالنا."
بعدها سألوا سيدة مجتمع معروفة كانت موجودة برضه. "يا حبيبتي هيفاء كانت زي القمر، بفستانها الأسود الأنيق ده. أيوه طبعاً كانت قاعدة طول الوقت، إزاي تخرج؟ ده حتى قامت سلمت على كذا حد ورجعت تاني مكانها. مفيش كلام، كانت موجودة."
الشهادات كانت قاطعة. حجة غياب هيفاء وهبي كانت زي الحيطة السد، مستحيل كسرها.
رجعوا عربية الشرطة تاني، والمقدم سامح كان باين عليه الإحباط والحيرة. "خلاص. كده هيفاء وهبي بره المعادلة كمنفذ مباشر. بس ده بيخلينا نرجع لسؤالك: مين الست اللي شافوها بسيوني وعفاف؟ ولازم تكون لولا صبري." ضرب بإيده على رجله. "لازم نجيب لولا صبري دي حالاً ونعرف منها كل حاجة!"
طلع تليفونه عشان يدي أوامر للقسم بتحديد مكان لولا صبري والقبض عليها فوراً للتحقيق. كان لسه هيتكلم، لما جاله اتصال من رقم تابع للقسم.
"أيوه يا فندم... أيوه... إيه؟! بتقول إيه؟ إمتى الكلام ده؟!" ملامح سامح اتغيرت فجأة، الصدمة حلت محل الحيرة. عينيه بقت واسعة ومش مصدق. قفل الخط ببطء وهو لسه بيبص قدامه بصدمة.
نور قلبها حس بالخطر. "خير يا سيادة المقدم؟ فيه إيه؟"
سامح بص لها ببطء، وعينيه فيها نظرة غريبة. "لولا صبري..." صوته كان واطي كأنه بيتكلم نفسه. "... مبقاش فيه داعي نجيبها للتحقيق."
"ليه؟ هربت؟"
"ياريت." سامح بلع ريقه بصعوبة. "لقوها ميتة في شقتها في الدقي من نص ساعة."
(لو حموكشة كان معاهم: ميتة؟! هي كمان؟! المسلسل ده كله موت كده؟ طب مفيش فاصل إعلاني نجيب فيه حاجة ناكلها؟ أنا معدتي عصافيرها بتصوّص.)الصدمة لجمت نور والمقدم سامح للحظات. لولا صبري ماتت؟ دي مكنتش مجرد معلومة جديدة، دي كانت قنبلة بتنسف كل نظرياتهم وتوقعاتهم وتدخل القضية في نفق أظلم وأكثر تعقيدًا.
"ميتة؟!" نور قالت بصوت مش مصدق. "ميتة إزاي؟!"
"بيقولوا... جرعة زايدة." سامح هز راسه كأنه بيطرد فكرة مش عايز يصدقها. "الجيران اشتكوا من ريحة غاز خفيفة، كسروا الباب لقوها على سريرها، جنبها كوباية مياه فاضية وشريط برشام منوم شبه فاضي. شكلها انتحار... أو ده اللي عايزينه يبان." التفت للسواق بسرعة. "على الدقي فوراً! شقة لولا صبري!"
العربية انطلقت تاني، والصمت كان هو سيد الموقف المرة دي. كل واحد غرقان في أفكاره، بيحاول يستوعب الكارثة الجديدة. لو كانت لولا هي اللي راحت فيلا الباشا، ليه تموت أو تتقتل بعدها بساعات قليلة؟
هل هي اللي قتلت فخري باشا وانتحرت بعدها ندمانة أو خايفة؟ ده احتمال، بس مكانش فيه أي حاجة تدل على إن لولا صبري بتمر بأزمة نفسية، كانت معروفة بخفة دمها وحبها للحياة رغم إنها مش نجمة صف أول.
هل حد قتلها عشان يسكتها؟ ده الاحتمال الأكثر منطقية. لو هي كانت مجرد ممثلة مأجورة عشان تلعب دور هيفاء، يبقى اللي أجرها هو اللي خاف إنها تتكلم بعد ما الجريمة حصلت، فقرر يتخلص منها. ده بيخلي اللي أجرها هو القاتل المحتمل لفخري باشا كمان.
(حموكشة في المكتب وهو بيسمع الخبر في التليفون من نور: انتحار ببرشام؟! طب مكانتش تعرف حد يجيب لها حاجة تموت أسرع؟ الواحد بيزهق وهو مستني النتيجة!)طيب مين اللي ممكن يكون أجرها؟ هيفاء وهبي؟ عشان تخلق لنفسها حجة غياب؟ بس لو هيفاء اللي أجرتها، هل معقول تقتلها بالسرعة دي وتخاطر بأن أصابع الاتهام تتوجه لها في جريمة تانية؟
ولا فخري باشا نفسه هو اللي استدعاها لسبب ما، واتقتل وهي هناك أو بعدها، فالقاتل الحقيقي اتخلص منها عشان يمسح أي أثر؟
وصلوا لعنوان لولا صبري في الدقي. العمارة كانت عادية، مش فخمة زي مباني الزمالك وجاردن سيتي. الدور اللي فيه شقتها كان فيه حركة وزحمة، ظباط وأفراد من الأدلة الجنائية بيتحركوا في المكان. ريحة غريبة خليط من غاز قديم وبرفان حريمي كانت لسه موجودة في الطرقة.
دخل نور وسامح الشقة الصغيرة. كانت بسيطة لكن أنيقة، فيها لمسة فنية واضحة. الألوان جريئة، ولوحات وصور كتير متعلقة على الحيطان، معظمها للولا نفسها في أدوار مختلفة أو وهي بتقلد فنانين تانيين، كان فيه صور كتير ليها وهي بتقلد هيفاء وهبي بالذات.
أوضة النوم كانت هي مسرح الأحداث. لولا كانت لسه على سريرها، متغطية بملاية بيضا لحد رقبتها. وشها كان شاحب وهادي بشكل مخيف. جنب السرير على الكومودينو، كانت الكوباية الفاضية وشريط البرشام شبه الفاضي اللي قالوا عليه، ونور لمحت ورقة صغيرة مطبقة تحت الكوباية.
"لقيتوا أي رسالة انتحار؟" سامح سأل ظابط الأدلة الجنائية.
"مفيش يا فندم. دورنا كويس، مفيش أي رسالة واضحة."
نور شاورت على الورقة اللي تحت الكوباية. "ودي إيه؟"
الظابط لبس جوانتي وشال الكوباية بحذر ومسك الورقة. فتحها وقراها بصوت واطي: "مكتوب عليها كلمة واحدة... (مظلومة)."
"مظلومة؟!" سامح ونور قالوها في نفس واحد تقريباً. كلمة غريبة ومبهمة. مظلومة في إيه؟ هل دي رسالة انتحار فعلًا، ولا حد كتبها وحطها عشان يضلل التحقيق؟
"فيه أي آثار مقاومة؟ كسر؟ خلع؟" سامح سأل وهو بيبص حواليه في الأوضة.
"مفيش أي حاجة واضحة يا فندم. الباب اتكسر بمعرفة الجيران والشرطة. الشبابيك مقفولة كويس. مفيش أي علامات عنف على الجثة نفسها، تقرير الطب الشرعي المبدئي بيقول جرعة زايدة من الباربيتورات."
كل حاجة كانت بتشير للانتحار، لكن التوقيت كان مريب جدًا، والكلمة المبهمة دي كانت زي الشوكة في الحلق.
(حموكشة في المكتب بيكلم تيمور: أنت إيه رأيك يا أبو التماتر؟ مظلومة دي يعني كانت بتشجع الأهلي مثلاً واتغلبت؟ أصل مخي قفل والله!) تيمور ميردش، بس يخربش بمخالبه على ورقة كان عليها صورة علبة البودرة الذهبية اللي اتلاقت في شقة لولا.نور بدأت تتجول في الشقة بعينيها، بتحاول تلقط أي تفصيلة ممكن تكون عدت على غيرها. دولاب الهدوم مفتوح نصه، وفيه فساتين كتير وأزياء تنكرية. بصت على التسريحة، عليها أدوات مكياج كتير وبرفانات وعلبة بودرة مفتوحة. لمحت جنب علبة البودرة علبة تانية صغيرة، شكلها غريب ومش مكانها. قربت منها أكتر.
"إيه دي يا أستاذة؟" سامح لاحظ اهتمامها.
نور شاورت عليها لظابط الأدلة الجنائية اللي قرب وشالها بحذر. كانت علبة معدن صغيرة، لونها دهبي، وعليها حرفين محفورين بشكل أنيق: "ف. أ."
"ف. أ." ؟ نور وسامح بصوا لبعض، نفس الحروف الأولى خطرت على بالهم.
"فخري الألفي؟" نور همست. "علبة زي دي بتعمل إيه هنا في شقة لولا صبري؟"
(حموكشة في المكتب: ف.أ؟ يمكن 'فول بالزيت الحار'؟ أصل الواحد ريقه جري بصراحة!)علبة "ف. أ." كانت لغز جديد. المقدم سامح أمر بتحريزها فوراً وفحصها بدقة لمعرفة محتوياتها، ولو عليها أي بصمات غير بصمات لولا صبري.
"فخري الألفي كان يعرف لولا صبري؟" سامح سأل نفسه بصوت عالي وهو بيبص لنور. "إيه العلاقة اللي ممكن تكون بينهم؟ وليه علبة زي دي تكون معاها؟ هدية؟ ولا..."
"ولا حاجة تخصه هي سرقتها أو خبّتها لسبب ما؟" نور كملت الاحتمالات. "أو يمكن الحروف دي مش معناها فخري الألفي أصلاً؟ لازم نتأكد."
موت لولا صبري عقد الأمور بشكل كبير. لو كانت انتحرت، يبقى السؤال ليه؟ ولو اتقتلت، يبقى اللي قتلها هو غالباً نفس الشخص اللي قتل فخري باشا، وده بيفتح دايرة اشتباه واسعة.
في الأيام اللي بعد كده، التحقيقات اتحركت في كذا اتجاه، بس كانت أشبه بالمشي في حلقة مفرغة، كل طريق بيدخلوا فيه بيوصل لحارة سد.
1. علبة "ف. أ.": المعمل الجنائي فحص العلبة. كانت المفاجأة إنها مكانتش علبة بودرة أصلاً، كانت علبة صغيرة جداً من النوع اللي بيتحط فيه زمان حتة شاش صغيرة معطرة أو حاجة تذكارية. جواها كان فاضي تماماً، مفيهوش أي حاجة غير تراب بسيط. البصمات اللي عليها كانت بصمات لولا صبري بس. الحرفين "ف. أ." كانوا محفورين بشكل قديم شوية، ممكن تكون حاجة ورثتها أو اشترتها من محل أنتيكات. خيط وبدا إنه مقطوع.
(حموكشة: علبة فاضية؟! يا خسارة الفرحة! طب مش يمكن كان فيها شيكولاتة وخلصت؟!)2. استجوابات وتحريات:
3. حياة لولا صبري: التحري عن لولا نفسها كشف إنها كانت محتاجة فلوس الفترة الأخيرة، وعليها ديون بسبب مصاريف علاج والدتها. ده ممكن يخليها تقبل تعمل أي حاجة مقابل الفلوس، زي إنها تنتحل شخصية هيفاء وهبي. أصحابها المقربين أكدوا إنها مكانتش من النوع اللي ممكن ينتحر، وإنها كانت بتحلم بالنجومية وبتشتغل على نفسها كتير الفترة الأخيرة. واحدة من صاحباتها قالت معلومة غريبة: "لولا من فترة كانت بتقول إنها داخلة على شغلانة كبيرة أوي، هتنقلها نقلة تانية خالص، بس كانت متكتمة جدًا على تفاصيلها."
كل الخيوط كانت بتتشابك وتتعقد. مين اللي استغل حاجة لولا للمال؟ هل هي اللي قتلت فعلًا وهربت واتقتلت بعدها؟ ولا هي مجرد بيدق في لعبة أكبر منها؟ ومين اللاعب الرئيسي؟
تيمور نط على السبورة البيضا اللي في مكتب نور، وحط كفه بالظبط على علامة الاستفهام اللي جنب اسم لولا، وميّو بصوت خافت.نور كانت قاعدة في مكتبها مع حموكشة، قدامهم السبورة البيضا الكبيرة مليانة أسماء وخطوط وعلامات استفهام. كانوا بيراجعوا كل التفاصيل والأقوال للمرة المليون.
"يا أستاذة أنا دماغي لفت،" حموكشة قال بيأس وهو بياكل ساندوتش للمرة الثالثة. "كل ما نمسك خيط يطلع فانكوش! تيجي نطلب بيتزا ونفكر بعدين؟ يمكن الحل يجي مع الزيتون!"
(حموكشة بيبص لتيمور اللي قاعد على السبورة: أنت إيه اللي موقفك هناك يا رخم أنت؟ فاكر نفسك نيوتن والتفاحة؟ انزل ياض!)نور كانت سرحانة، بتفتكر تفاصيل المقابلات اللي عملتها، كلام الشهود، شكل مسرح الجريمة في الفيلا وفي شقة لولا. فجأة، حاجة صغيرة لمعت في ذاكرتها. تفصيلة اتقالت بشكل عابر ومحدش ركز معاها ساعتها.
"حموكشة،" نور قالت ببطء وعينيها مركزة على نقطة بعيدة. "فاكر مدام عفاف، السكرتيرة، قالت إيه بالظبط لما سألناها عن مكان ما شافت الست وهي خارجة؟"
حموكشة بلع بصعوبة: "قالت شافتها من الشباك... وهي بتخرج من بوابة الفيلا."
"بالظبط! بتخرج من *البوابة*!" نور قامت بسرعة. "لكن بسيوني قال إنه شافها ماشية في *الممر الداخلي*، قبل البوابة، وقبل الوقت اللي عفاف قالت عليه بحوالي سبع دقايق! ليه الفرق ده؟"
"يمكن كانت ماشية بتتفرج على الورد؟ أو بتعد النمل اللي ماشي على السور؟" حموكشة قال ببلاهة.
"أو يمكن،" نور قالت وعينيها بتلمع، "مكنش شخص واحد... دول كانوا اتنين!"
"اتنين؟! لابسين زي بعض؟" حموكشة مخه ضرب. "واحدة قتلت والتانية ضللت؟ مين دول؟ زي فيلم الحاسة السابعة كده؟"
"فكر معايا يا حموكشة،" نور بدأت تمشي وتفكر بصوت عالي. "لو لولا هي اللي شافها بسيوني في الممر الساعة 2:05، والتانية اللي شافتها عفاف خرجت من البوابة 2:12... سبع دقايق فرق! ليه؟ إلا لو اللي شافها بسيوني دي مخرجتش من البوابة أصلاً!"
"يعني خرجت منين؟ عملت teleportation؟ نطت من ع السور زينا؟" حموكشة سأل وهو بيفتكر معاناتهم في التسلق.
"ممكن! أو الأسهل، خرجت من باب الخدمة اللي ورا! باب محدش بيراقبه!" نور قالت بحماس.
تيمور نط من على السبورة وقعد جنب باب المكتب، وبص لنور كأنه بيقول 'أيوه كده! فكري في المخارج التانية!'.الصورة بدأت توضح: واحدة (ممكن لولا) خرجت من البوابة الرئيسية عشان تضلل الشهود وتثبت توقيت غلط. والتانية (القاتلة الحقيقية) نفذت الجريمة وخرجت من باب الخدمة الخلفي!
"وده يفسر حجة غياب هيفاء!" حموكشة صاح بحماس مفاجئ كأنه اكتشف أمريكا. "لأن اللي خرجت من البوابة ممكن تكون لولا، بس معملتش حاجة! والتانية هي اللي... يا بنت اللذين!"
"بالظبط! ولولا اتقتلت بعدها عشان كانت الحلقة الأضعف، الشاهد الوحيد على جزء من الخطة." نور كملت.
"طيب مين القاتلة التانية دي؟"
الشكوك رجعت تاني: حد من جوه الفيلا؟ مروان؟ هيفاء نفسها بطريقة ما؟ ولا طارق بيه المصري، العريس المنتظر اللي مصلحته واضحة؟
نور بدأت تراجع تاني أقوال الشهود في دماغها، بتدور على أي كلمة، أي إشارة، أي تناقض بسيط يدعم نظرية "الشخصين". افتكرت تردد عفاف السكرتيرة لما واجهوها بصور لولا. افتكرت هدوء بسيوني الخادم الزايد عن اللزوم. افتكرت كلام صاحبة لولا عن "الشغلانة الكبيرة".
"لازم نرجع الفيلا تاني يا حموكشة،" نور قالت بحسم. "لازم نعاين المكان بنفسنا، نشوف المداخل والمخارج التانية المحتملة، ونقيس المسافات والتوقيتات. ولازم نتكلم مع بسيوني وعفاف تاني، بس المرة دي وإحنا في دماغنا سيناريو مختلف تمامًا."
"نرجع تاني؟! يا أستاذة ده أنا ركبي لسه بتصّفر من النطة الأولانية! مفيش حل من بعيد لبعيد؟ نبعت لهم زووم ميتينج؟ أو نسأل عم جوجل؟"
نور ابتسمت: "لازم نروح. أنا حاسة إننا قريبين أوي."
(حموكشة لنفسه: قريبين من الحل ولا قريبين من الحبس بتهمة التسلل؟ يا رب استر!)بالليل، تسللت نور وحموكشة تاني لفيلا الألفي (وسط اعتراضات حموكشة وخوفه من الكلاب والعفاريت وصوت البومة اللي سمعه). فحصوا باب الخدمة الخلفي اللي بيفتح على شارع جانبي هادي. مكان مثالي للهروب.
دخلوا بحذر أكتر جوه الفيلا من باب المطبخ اللي كان موارب (يمكن حد من الخدم نسيه؟ أو يمكن بسيوني سابه لهم؟). اتحركوا في الطرقة الخلفية لحد ما وصلوا للبهو الرئيسي. طلعوا للدور التاني بحذر شديد. مكتب عفاف السكرتيرة كان مقفول، لكن شباكه كان بيطل فعلًا على البوابة الرئيسية زي ما قالت. وقفت نور تبص من نفس الشباك.
"من هنا، لو حد واقف عند البوابة، هتشوفيه كويس،" نور قالت وهي بتقيم زاوية الرؤية. "لكن لو حد ماشي في الممر اللي تحت، قبل ما يوصل لمنحنى الأشجار اللي بيودي للبوابة، صعب تشوفيه بوضوح أو تركزي في ملامحه أوي."
نزلوا تاني، وقرروا يغامروا ويكلموا بسيوني الخادم اللي كان لسه موجود في غرفة صغيرة ملحقة بالمطبخ. بسيوني اتخض لما شافهم كأنه شاف عفريت.
(حموكشة بيهمس: شكله عارف إننا جايين! ولا يمكن حس بريحة السندوتشات اللي في جيبي؟)نور طمنته وقالت له إنهم بس بيحاولوا يفهموا حاجة صغيرة.
"يا عم بسيوني، بس قول لي تاني بالظبط، الست اللي شفتها ماشية في الممر دي، كانت ماشية إزاي؟ بسرعة؟ بتتلفت حواليها؟ وشكلها كان إيه بالظبط؟"
بسيوني فكر شوية، وشه بيكرمش وبيبص في الأرض. "والله يا ست هانم، هي كانت ماشية عادي، مش بتجري يعني. ولابسة الفستان الأسود أبو لمعة ده اللي شوفته في التلفزيون على مدام هيفاء. بس وشها... معرفش ليه، حسيته متغير شوية، كأنها حاطة بودرة كتير أوي، أو يمكن عشان الإضاءة كانت خافتة في الطرقة دي؟ معرفش أقول لك بالظبط."
"بودرة كتير؟" الكلمة دي خلت نور تركز. هل ممكن يكون ده جزء من التنكر؟ أو عشان تخفي ملامح معينة؟
رجعوا نور وحموكشة خرجوا تاني من الفيلا بنفس الطريقة الصعبة، وروحوا المكتب. نور قعدت على كرسيها بتعب وإرهاق، لكن عقلها كان لسه شغال.
"شخصين، يا حموكشة. أنا شبه متأكدة إنهم شخصين،" قالت وهي بتدلك جبينها. "واحدة دخلت وخرجت من البوابة الرئيسية عشان تضلل الشهود وتثبت وقت غلط للجريمة... والتانية هي اللي نفذت وخرجت من باب الخدم اللي ورا. الشخصية التانية دي، هي اللي بسيوني لمحها ماشية في الممر الداخلي، وحس إن وشها غريب أو عليه بودرة كتير."
"بس مين هي الشخصية التانية دي يا أستاذة؟ ومين العقل المدبر اللي حركهم الاتنين؟ ده فيلم هندي أوي!" حموكشة قال وهو بيحاول يفك عقدة في شعره الكنيش.
نور بصت للسبورة تاني، للأسماء والخطوط المتشابكة. حاسة إن كل القطع قدامها، بس مش عارفة تركبها صح. مين المستفيد الأكبر؟ مين اللي عنده الجرأة والذكاء والدافع إنه يخطط لكل ده؟
"فيه حاجة ناقصة..." نور همست لنفسها. "معلومة واحدة بس. خيط رفيع أوي هيربط كل ده ببعض. تفصيلة صغيرة هتوضح الصورة كلها. لو بس أعرف..."
تيمور كان قاعد فوق دولاب الملفات، بيبص على ورقة عليها تفاصيل علبة البودرة "ف. أ." اللي جابتها نور من تقرير المعمل الجنائي، وبعدين بص على ملف تاني مكتوب عليه "الحسابات القديمة - الألفي".نور كانت قاعدة في مكتبها، حاسة بالإحباط واللغز بيستعصى عليها. بصت لحموكشة اللي كان غرقان قدام اللاب توب بتاعه، بيقلب في أرشيف أخبار قديمة وملفات بيوصلها بطرقه الخاصة (غالباً بيخمن باسووردات أو بيشتريها من حد في السوق السودا).
"زهقت يا أستاذة؟" حموكشة سألها من غير ما يرفع عينيه. "أنا نفسي قربت أيأس. كل الطرق مقفولة. بقولك إيه، ما تيجي نسيبنا من القضية دي ونفتح عربية كبدة؟ أنا عندي خلطة سرية!"
"مش وقته يا حموكشة!" نور اتنهدت وقامت تعمل لنفسها فنجان قهوة تاني، يمكن الكافيين ينور لمبة في دماغها.
(حموكشة بيكلم نفسه: مش وقته إيه بس؟ الكبدة أهم من أي جريمة! والقط ده عمال يبص لي كده ليه؟ عايز حتة؟ لأ طبعاً!)وهي واقفة مستنية الكاتيل يغلي، رن تليفون المكتب. كان حموكشة.
"أستاذة!" صوته كان فيه نبرة غريبة، مزيج من المفاجأة والشك وهو بيبص على شاشة الكمبيوتر. "مش هتصدقي أنا لقيت إيه بالصدفة وأنا بدور في حسابات قديمة أوي لفخري باشا... حاجة من عهد جد جدي! شكلها فاتورة كهربا متسددتش!"
"فاتورة كهربا إيه يا حموكشة! ركز!" نور قالت بحدة.
"آسف يا أستاذة، قصدي لقيت تحويلات بنكية شهرية بمبلغ مش كبير بس منتظم، كانت بتروح لحساب واحدة ست اسمها... فكرية صبري! من أكتر من عشرين سنة."
"فكرية صبري؟" الاسم مكنش غريب أوي. "مين دي؟"
"استني بس، الأغرب بقى إني لما دورت أكتر على الاسم ده... طلعت تبقى والدة لولا صبري الله يرحمها!"
نور سابت الكاتيل ورجعت قعدت على مكتبها بسرعة. "والدة لولا؟ فخري باشا كان بيبعت فلوس لوالدة لولا صبري من عشرين سنة؟!"
"بالظبط! تحويلات منتظمة وفضلت ماشية كذا سنة ووقفت فجأة. مفيش أي تفسير ليها في الأوراق الرسمية."
عقل نور بدأ يشتغل بسرعة الصاروخ. فخري باشا كان يعرف والدة لولا صبري! دي معلومة محدش قالها خالص. هل دي علاقة قديمة؟ مساعدة إنسانية؟ ولا حاجة تانية؟ ده يفسر وجود علبة البودرة الـ"ف. أ." في شقة لولا، ممكن تكون فعلًا تذكار قديم ورثته عن والدتها من فخري الألفي! ده كمان يخلي فيه احتمال إن لولا نفسها تكون راحت تفاتح فخري باشا في الموضوع ده مؤخرًا، يمكن عشان تطلب مساعدة، أو يمكن حتى عشان تبتزه؟
تيمور نط على مكتب نور وداس بمخلبه على تقرير المعمل الجنائي الخاص بعلبة "ف. أ."، وميّو بصوت عالي شوية.وهي لسه بتفكر، موبايلها رن برقم غريب. ردت بحذر.
"أستاذة نور عبد الحميد؟" صوت واحد شكله رسمي. "معاكي دكتور شريف من المعمل الجنائي. بخصوص العلبة المعدن الصغيرة اللي طلبتي إعادة فحص محتوياتها من قضية لولا صبري."
"أيوة يا دكتور؟ فيه جديد؟" نور قلبها بيدق أسرع.
"الجديد يا أستاذة إن المادة اللي كانت جوه دي مش تراب عادي زي ما كنا فاكرين في الأول. بعد تحليل دقيق بالميكروسكوب الإلكتروني ومقارنتها بعينات عندنا، اكتشفنا إنها بقايا دقيقة جدًا لنوع نادر وغالي من بودرة التلك المسرحية (Theatrical Talc)، نوع بيستخدموه الممثلين المحترفين والمختصين في المؤثرات الخاصة عشان يغيروا ملامح الوش بشكل كبير، زي ما يكون قناع بودرة ناعم. دي مش بودرة مكياج عادية خالص يا أستاذة."
نور غمضت عينيها للحظة، وحست إن كل قطع البازل المتفرقة بدأت فجأة تتركب في مكانها الصحيح. الصورة كلها نورت قدامها بوضوح مبهر.
بودرة مسرحية! ده يفسر ليه بسيوني الخادم حس إن وش الست اللي شافها في الممر الداخلي "متغير" أو "عليه بودرة كتير"! مكانتش مجرد ست لابسة فستان هيفاء وهبي، دي كانت غالبًا لولا صبري نفسها، مستخدمة مهارتها كمقلّدة ومواد احترافية، عشان *تغير ملامح وشها هي نفسها بشكل كبير*!
ليه؟ ليه لولا تعمل كده؟ مش عشان تقلد هيفاء بالظبط وتخدع الشهود عند البوابة – لأ، دي مهمة الشخصية التانية اللي لابسة أسود. لولا كانت جوه، متنكرة بوش مختلف تمامًا، غالباً بطلب من فخري باشا نفسه!
السيناريو انفجر في دماغ نور: فخري باشا، اللي كان يعرف لولا ووالدتها، هو اللي استدعى لولا للفيلا في اليوم ده. مش عشان تقتله، لكن عشان تكمل خطة هو بدأها. يمكن خطة ليها علاقة بالطلاق؟ يمكن كان عايز لولا (بوشها المتغير) تشهد على حاجة معينة؟ أو تسلم مستندات؟ أو تلعب دور في خدعة هو مرتبها ضد هيفاء أو طارق المصري؟
وفي وسط كل ده، القاتل الحقيقي – اللي عرف بطريقة ما بوجود لولا في الفيلا في الوقت ده (يمكن لولا نفسها اتكلمت أو القاتل كان بيراقب؟) – استغل الفرصة الذهبية. دخل الفيلا (يمكن بمساعدة حد من جوه زي بسيوني أو عفاف؟ أو من باب الخدمة؟)، قتل فخري باشا بينما لولا كانت في مكان تاني في الفيلا بتجهز أو مستنية.
وبعدين؟ القاتل ساب لولا تخرج (وهي متعرفش إن الباشا اتقتل)، يمكن عشان تبقى هي المشتبه به الرئيسي لو احتاج الأمر. وبعد ما اتأكد إن خطته ماشية صح، وإن لولا بقت خطر وممكن تتكلم (خصوصاً بعد ما عرفت بموت الباشا)، قرر يتخلص منها هي كمان، ورتب الموضوع عشان يبان انتحار، وحط كلمة "مظلومة" عشان يزود الحيرة والضباب.
مين القاتل؟ مين اللي عنده الدافع والذكاء والقسوة دي كلها؟ ومين اللي يعرف تفاصيل زي دي ويقدر يتحرك بالدقة دي؟ الشكوك كلها اتجمعت عند شخص واحد مكنش عليه أي دليل مباشر لحد دلوقتي.
"حموكشة،" نور قالت بصوت واطي لكن مليان ثقة ويقين. "أنا عرفت مين القاتل. وعرفت إزاي عملها. يلا بينا، لازم نبلغ المقدم سامح فوراً قبل ما القاتل ده يهرب أو يمحي باقي آثاره."
(حموكشة: عرفتيه؟! بجد؟! طب قولي لي أنا الأول! ولو طلع صح، ليكي عندي كيلو بسبوسة بالقشطة!)بناءً على طلب نور، وبموافقة – على مضض – من المقدم سامح بعد ما سمع نظريتها الجديدة المدعومة بأدلة المعمل الجنائي، تم استدعاء كل الأطراف الرئيسية لاجتماع أخير في مسرح الجريمة نفسه: مكتبة فخري باشا الألفي.
المكتبة كانت لسه محتفظة بجو الكآبة والترقب. هيفاء وهبي كانت قاعدة على طرف الكنبة، جميلة كالعادة لكن وشها متجهم وعصبي. جنبها طارق بيه المصري، بيحاول يبان هادي لكن عينيه بتتحرك بقلق. في الناحية التانية، كان مروان الألفي، ابن الأخ، بيفرك إيديه بتوتر. عفاف السكرتيرة وبسيوني الخادم كانوا واقفين جنب الحيطة، وشوشهم صفرا وباين عليهم الخوف. المقدم سامح وقف جنب المكتب، مكتف إيديه ومستني يسمع نهاية القصة دي.
نور وقفت في نص الأوضة، وحموكشة جنبها ماسك نوتة صغيرة وقلم (عامل نفسه بيكتب ملاحظات وهو بيرسم سندوتشات).
"أنا جمعت حضراتكم النهاردة،" نور بدأت بصوت هادي لكن واثق، "عشان أقول لكم إن لغز مقتل فخري باشا الألفي، ومقتل لولا صبري بعده، اتحل."
عيون كل اللي في الأوضة اتثبتت عليها.
"في البداية، كل حاجة كانت بتشير لمدام هيفاء، خصوصاً بعد شهادة عم بسيوني ومدام عفاف إنهم شافوها أو شافوا حد شبهها خارج من هنا في وقت قريب من وقت الجريمة. لكن حجة غياب مدام هيفاء كانت قوية ومنطقية ومثبتة بشهود كتير، وده دخلنا في دايرة الشك في لولا صبري، الممثلة اللي بتقدر تقلد مدام هيفاء ببراعة."
نور بصت ناحية هيفاء اللي هزت راسها بحدة. "أنا قلت لكم مليش دعوة!"
"أنا عارفة يا مدام هيفاء. وده اللي التحقيق أثبته فعلاً." نور كملت. "المفتاح الحقيقي كان في التناقض البسيط بين شهادة عم بسيوني ومدام عفاف. بسيوني شاف شخص (هنسميه الشخص أ) ماشي في الممر الداخلي حوالي الساعة 2:05، بينما عفاف شافت شخص تاني (هنسميه الشخص ب) بيخرج من البوابة الرئيسية حوالي الساعة 2:12. الفرق السبع دقايق ده، مع ملاحظة بسيوني إن وش الشخص اللي شافه كان 'متغير أو عليه بودرة كتير'، هو اللي فتح لنا الباب للحقيقة."
نور اتحركت ناحية مكان ما لقوا جثة فخري باشا. "الحقيقة إن لولا صبري كانت فعلًا هنا في الفيلا يوم الجريمة. لكن مش عشان تقلد مدام هيفاء وتخلق لها حجة غياب. لأ، هي كانت هنا بطلب من فخري باشا نفسه."
الكلام ده عمل همهمة في الأوضة.
"فخري باشا كان يعرف لولا من زمان، أو بالأحرى كان يعرف والدتها، السيدة فكرية صبري، من أكتر من عشرين سنة، وكان بينهم علاقة ما أو اتفاق ما بدليل التحويلات البنكية القديمة اللي لقيناها. علبة الـ'ف. أ.' اللي لقيناها في شقة لولا كانت غالباً تذكار من العلاقة دي. الباشا استدعى لولا، اللي كانت بتمر بضائقة مالية ومحتاجة أي شغل، عشان تكمل خطة هو كان بيرتبها. خطة غالباً ليها علاقة بموضوع الطلاق أو بزواج مدام هيفاء من طارق بيه. طلب منها تستخدم مهارتها في التنكر وتغير ملامح وشها تماماً باستخدام بودرة التلك المسرحية اللي لقينا آثارها في العلبة. لولا كانت هي الشخص (أ) اللي شافه بسيوني ماشي في الممر الداخلي، وكانت رايحة تنفذ الجزء المطلوب منها في خطة الباشا اللي منعرفش تفاصيلها الكاملة."
نور سكتت لحظة وبصت حواليها. "لكن فيه حد تاني كان عارف بالخطة دي، أو على الأقل كان عارف بوجود لولا هنا في الوقت ده. حد كان بيراقب، أو ليه جواسيسه، أو يمكن لولا نفسها اتكلمت بحسن نية عن الشغلانة الجديدة اللي داخلة عليها. الحد ده استغل الفرصة."
اتحركت نور ناحية باب الخدمة اللي اكتشفوه ورا. "القاتل دخل الفيلا من هنا، من باب الخدمة الخلفي، غالباً بمساعدة حد من جوه بيثق فيه أو مسيطر عليه." بصت بسرعة ناحية بسيوني اللي وشه اصفر أكتر. "دخل بهدوء، ووصل للمكتبة هنا وقتل فخري باشا بطعنة واحدة قاتلة، بينما لولا كانت في مكان تاني في الفيلا، غالباً في أوضتها القديمة أو أوضة الضيوف بتجهز نفسها أو مستنية تعليمات الباشا."
"وبعدين؟" المقدم سامح سأل بلهفة.
"بعدين، القاتل ساب لولا تخرج وهي لسه بوشها المتنكر، وخلاها تمشي في الممر عشان عم بسيوني يشوفها ويثبت وجود 'شخص غريب' في الفيلا. وبعد ما لولا خرجت من باب الخدمة واختفت، القاتل نفسه هو اللي لبس فستان أسود تاني شبه فستان مدام هيفاء (يمكن كان مجهزه أو لقاه هنا)، وخرج هو 'الشخص ب' اللي شافته مدام عفاف من شباكها وهو بيعدي من البوابة الرئيسية الساعة 2:12 بالظبط. بكده، القاتل خلق شاهدين على وجود شخص شبه هيفاء في الفيلا، وفي نفس الوقت ثبت توقيت خروج مضلل عشان يبعد الشبهة عن وقت الجريمة الحقيقي، وطبعاً عشان يورط هيفاء أو لولا."
"ولولا؟ ليه اتقتلت هي كمان؟" طارق المصري سأل بصوت متوتر.
"لأنها بقت خطر. بمجرد ما عرفت بموت الباشا، بقت هي الشاهد الوحيد اللي ممكن يربط الأحداث ببعض، حتى لو معرفتش مين القاتل. القاتل مقدرش يسيبها عايشة. راح لها شقتها، وقتلها بجرعة منوم زايدة عشان تبان انتحار، وزرع كلمة 'مظلومة' عشان يزود الحيرة. وحتى علبة البودرة الـ'ف. أ.'، أنا أرجح إن القاتل هو اللي خدها من مكتب الباشا بعد ما قتله (يمكن كانت على المكتب أو في درج)، وزرعها في شقة لولا عشان يوجه الشكوك ناحية علاقة قديمة بينها وبين الباشا، ويبعد الأنظار أكتر عن الدافع الحقيقي."
نور وقفت في نص الأوضة تاني، وبصت على الوشوش اللي قدامها واحد واحد.
"مين اللي ممكن يعمل كل ده؟ مين اللي عنده القدرة على التخطيط والتنفيذ بالدم البارد ده؟ مين اللي يعرف تفاصيل دقيقة عن الفيلا وعن علاقة الباشا القديمة بوالدة لولا؟ ومين المستفيد الأكبر؟"
بصت لهيفاء. "مدام هيفاء، صحيح كنتي عايزة الطلاق، لكن حجة غيابك قوية، والتخطيط ده أعقد وأشرس من مجرد رغبة في الجواز."
بصت لمروان. "مروان بيه، كرهك لعمك وورثك واضحين، لكن حجة غيابك مقبولة، والأسلوب ده محتاج دقة مش تهور."
بصت لعفاف وبسيوني. "أما حضراتكم، فممكن تكونوا ساعدتوا تحت التهديد أو الإغراء، لكن صعب تكونوا العقل المدبر."
أخيراً، ثبتت نور عينيها على طارق بيه المصري اللي كان بيحاول يتجنب نظراتها.
"ميفضلش غيرك يا طارق بيه. حضرتك المستفيد الأول من موت فخري باشا عشان تقدر تتجوز مدام هيفاء. حضرتك اللي عندك الإمكانيات والموارد إنك تراقب وتخطط وتنفذ. حضرتك اللي قدرت تعرف بطريقة ما بخطة الباشا بخصوص لولا، وقررت تستغلها أبشع استغلال. حضرتك اللي دخلت من الباب الخلفي بمساعدة بسيوني اللي كان خايف منك أو مديون لك. حضرتك اللي قتلت الباشا. وحضرتك اللي لبست الفستان الأسود وخرجت من البوابة الرئيسية عشان مدام عفاف تشوفك. وحضرتك اللي روحت للولا صبري المسكينة وقتلتها بدم بارد عشان تسكتها للأبد."
طارق المصري قام وقف، وشه أحمر وعينيه بتطق شرار. "إنتي اتجننتي؟! إيه التخاريف اللي بتقوليها دي؟! إيه الدليل اللي عندك؟!"
"الدليل هو ترتيب الأحداث اللي مفيش غيره يفسر كل التناقضات دي يا طارق بيه،" نور قالت بثبات. "الدليل هو إنك الشخص الوحيد اللي كل الخيوط بتقف عنده في الآخر. الدليل هو خوفك اللي باين في عينيك دلوقتي."
"ده كلام فارغ! محصلش!" طارق بدأ صوته يعلى بهستيريا. "أنا كنت..."
"كنت فين يا طارق بيه وقت الجريمة بالظبط؟" المقدم سامح قاطعه بصوت حاسم وهو بيقرب منه. "حجة غيابك مكانتش واضحة زي الباقيين. عندك تفسير؟"
طارق اتلجلج وبص حواليه كأنه بيدور على مخرج. "أنا... أنا كنت مشغول... في اجتماعات..."
في اللحظة دي، بسيوني الخادم مقدرش يستحمل أكتر وانهار. "هو يا باشا... هو اللي هدّدني... وقالي أفتح له الباب اللي ورا... أنا خفت منه... معرفش إنه هيعمل كده والله..."
صرخة بسيوني كانت زي الطلقة اللي قضت على أي أمل لطارق المصري. حاول يوصل للباب بسرعة، لكن المقدم سامح ورجالته كانوا أسرع. قبضوا عليه وهو بيصرخ وبينكر وبيسب ويلعن.
المكتبة الفخمة اللي شهدت بداية اللغز، شهدت نهايته كمان. نور وقفت تتفرج على المشهد بهدوء، حاسة بمزيج من الإرهاق والرضا. لغز تاني اتحل، وجريمة تانية كشفت عن وجوه الشر الحقيقية اللي ممكن تستخبى ورا الابتسامات الأنيقة والبدل الغالية.
حموكشة قرب منها وهمس: "عظمة يا أستاذة! جبتيه في الآخر! طب... بمناسبة الفرحة دي بقى... مفيش شاورما؟ أنا خلاص ريقي نشف!"
نور ضحكت بصوت عالي لأول مرة من أيام. "فيه يا حموكشة... فيه. بس تعزمني أنا وتيمور."
(حموكشة بص لنور بصدمة: وتيمور؟! هو القط ده هياكل شاورما؟! لأ طبعاً! ده آخره ياكل دراي فود! أنا اللي حليت القضية برضه!) على كنبة قريبة، تيمور كان بيغسل وشه بلامبالاة وفخر، كأنه بيقول 'كنت عارف من الأول، يا شوية هواة'.